مخاض_413 ماي 2022:… ارتدت السماء ثوبها الأرجواني لتعلن عن بداية يوم جديد و على وقع قطرات المطر على اوراق الشجر ، أخرجت كرسيّها الخشبيّ و “قهوتها العربي” التّي بثّت الدفء في المكان و أرسلت مع رائحتها الزكيّة رائحة الذكريات و الأشواق…جلست مرتدية “ظلالتها” و “فوطتها” تحت المطر و هي تتلذّذ بقطرات الماء النّازلة من السماء كأنّها تنزل على قلبها لتُطهّره من النّدوب… ثمّ أخرجت من تحت “شونها” صورة بيضاء و سوداء ، مُصفرّة الأطرف… إنّها صورة زوجها نور الدّين ،رحمه الله، وهو مرتدي زيّ الجيش الوطني، على وجهه علامات الحزم ، يَبُثّ فيك الاستقامة من مجرّد النّظر إلى عينيه، كان في وضعيّة استعداد دائم … إلاّ لرصاصة الموت التّي خطفته دون سابق إنذار و لا استئذان…كان جنرالا وقورا محتَرما ، على رغم صِغر سنّه فقد كان مُهابًا من الجميع و كلمته مُطاعة حتّى من الذّين يكبرونه سنًّا و خبرة…استشهد في أحد الاشتباكات في الحدود الغربيّة للبلاد التونسيّة ، و كانت جنازته جنازة لم تشهدها تونس من قبل ، فالكلّ يشهد له كم أفنى عمره في خدمة هذا الوطن بحبّ و إخلاص…لطالما كان ينتابها الضعف أحيانا أو الحاجة ، فتترجاه إلى أن تُقبِّل قدميه ، بأن لا يخرج و يتركها وحيدة مع رضيعها في الليل و تطلب منه أن يُعوِّض تلك الليلة لاحقا ساعات إضافية…لكن دون جدوى و كان يقول لها بكلّ حزم :” تونس أيضا هي شرفي و عرضي و أهلي و لها عليّ واجب القِوَامَة”فكانت تودّعه بنظرات الأنثى العطوفة ، الولهانة، المحتارة… و تسأل الله أن يرّده إليها سالما.بدأت تتحسّس الصورة بأناملها المرتعشة و تنظر إليها بكلّ شوق و كأنّها تُريد أن تَسْتَنطقها، ثمّ قالت و اللّوعة تُمزّق صوتها :” نعم يا حبيبي ، قد أفنيت عمرك خدمة للوطن و حرمتنا من حضنك الدافئ أيّاما و ليالي … و هاهم اليوم يُجَازونك بتَتّبع ابنك في المحاكم العسكريّة ، ابنك الذّي لم يكن جنديا مثلك اختار أن يبتعد عن البلاء و لكنّ البلاء اختاره!، … ااه يا حبيبي هاهم يشكرون لك سعيك و يُجازونك على معروفك باتّهام ابنك المدنيّ بتُهم لا أتجرأ أن أقولها لك كي لا تتعذّب أكثر في قبرك… هكذا الدولة تُكافئ جنودها الأبرار!!!”امتزج ماء عينيها بماء المطر ، و أعادت الصورة داخل صدرها كما كانت مكانته دائما داخل قلبها.أكملت قهوتها بمرارة ثمّ دخلت بيتها لتعُدّ ساعات عمرها المنهوبة جرّاء هذه البلاد المنكوبة…!و في المساء خرجت جارتها الخالة مبروكة لتطمئن على حالها ، خاصّة أنّه قد اقترب موعد الجلسة و تعلم أنّها عندما يقترب موعد جلسة ابنها تدخل في حالة هستيريّة ، فأصبح مزاجها يُقاس بمواعيد الجلسات مثلما كان يقاس بعادتها الشهريّة!اقتربت مبروكة من “الشّراك”، فإذا بها تُبصر أمّ عاطف على غير عادتها ، إذ هي تقف قُبَالة باب “حوشها” ، على عكس اتّجاه القبلة ، مُسْنِدَة وراء ظهرها النّبات و الأشجار…و المُلْفِتُ في الأمر أنّها تُغمغم بكلام لا يُفهم و أحيانا تَخْطو بعض الخُطوات إلى الوراء أكثر…، كأنّها تنتظر يدا من الوراء لتحتضنها او طائرا ضخما أن يحملها و يطير بها أو كائنا ما ليحيط بها و يُشعِرُها بالقرب و الرضاء…فتملّك خالتي مبروكة الفضول فاقتربت أكثر دون أن تُلْفِت النّظر لتسمع أمّ عاطف تقول :” ربّي، أعلم أنّ وعدك حقّ و أعلم أنّي خذلتك بضعفي ، أعلم أنّي خذلتك و خذلت الرسول بانكساري الفضيع هذا، إلهي…أنيسي…، أعترف أنا التّي أفسدت ما بيني و بينك من وِدّ، أنت الذّي أحبَبْتَني و أنا التّي لم أكن أهلا لحُبِّك…إلهي إن أَرَدْتُ بأحد من عبادك خيرا و لكنّ سلوكي لم يُوافق نيّتي و أخطأتُ في حقِّه فأَرْسِلْهُ لي لأعتذر إليه و ليقتص منّي ، إلهي سَلِّم النّاس من جهلي و من شرور نفسي ، و ما أبرئ نفسي إنّ النّفس لأمارّة بالسوء…، إلهي إنّك تعلم أنّ الأمر الذّي حلّ بي جلل و أنّ تَقدُّمي في السنّ و ارتفاع رصيدي من الصدمات و الخيبات قد أضعف إيماني… إلهي بعد انهيار كلّ شيء داخلي و بعدما سُكِّر بصري بالحزن…أرني كيف أعود إليك؟؟! أَخْبِرْ قلبي الموجوع و فؤادي المبتور كيف يَرْضَى؟ اللهم اربط على قلبي كما ربطت على قلب أمّ موسى و ارزقني صبر يعقوب لتَرُدَّ إليّ يوسُفي …”فتقدّمت الخالة مبروكة بخطى ثابتة نحوها ثمّ ألقت عليها التحيّة :” السلام عليكم يا أمّ عاطف ، آشْ تِديري في هالصَّقْع و الدّنيا بِتْوَلي ظلام؟ و علاش دايرة ظهرك للقبلة و توا وقت غروب؟”فأجابت أمّ عاطف في هدوء ناتح عن إنهاك و إرهاق :” مرحبا بك يا مبروكة ، والله اِسْتَحِييت من ربّي و أنا بكلّ هذا الضعف لي ضرب إيماني و هزّ أركاني ، فمَبْغِيتِشْ من الحِشْمة نَقَبَّلَه للقِبْلَة و نِدْعِيلَهْ “فطبطبت مبروكة على كتفها و أدخلتها البيت ، و قدّمت لها بعض “الطابونة” الساخنة، و واستها قليلا ، ثمّ عادت أدراجها و تركتها تغوص في وِحْدَتها….و هكذا مازال مخاضها متواصل…(يتبع…)
خواطر زمن الانقلاب
جميع الحقوق © 2019 محفوظة لـ " حقوق نيوز" - و يحظر نشر أو توزيع أو طبع أي مادة دون إذن مسبق من حقوق نيوز | أنجز من قبل حسن عبدالله